العنف المسلح في شمال نيجيريا.. جذور وأبعاد
ليس مجرد صراع أمني بل أزمة اجتماعية واقتصادية متجذرة
- السيد التيجاني
- نوفمبر 5, 2025
- تقارير
- الأمم المتحدة, بوكو حرام, شمال نيجيريا, مأساة
تعيش شمال نيجيريا أيامًا صعبة، حيث تعود أصوات الانفجارات والرصاص لتخترق سكون المدن والقرى. وفي الوقت الذي تبذل فيه الحكومة جهودًا حثيثة لاستعادة السيطرة، تبدو التحديات الأمنية أعمق من مجرد معارك عسكرية.
في صباحٍ باكرٍ من شهر نوفمبر، يستيقظ سكان ولاية بورنو شمال شرقي نيجيريا على دويّ انفجار جديد. الغبار يتصاعد فوق الأسطح الطينية، وصوت المؤذن يُحاول أن يعلو فوق أصوات الرصاص. في المخيمات القريبة، تتنفس الأمهات ببطء، وهنّ يُحصين أبناءهن خشية أن يكون أحدهم قد فقد في الهجوم الأخير.
إنها المشاهد اليومية التي باتت مألوفة في شمال نيجيريا، حيث الحرب لم تعد حدثًا طارئًا، بل واقعًا دائمًا يرافق الحياة.
جذور الأزمة: من تمرد إلى مأساة إنسانية
تعود جذور الصراع في شمال نيجيريا إلى عام 2009، حين برزت جماعة بوكو حرام بفكر متشدد يرفض التعليم الغربي ويدعو إلى إقامة نظام ديني صارم.
بدأت الجماعة كحركة دعوية، لكنها سرعان ما تحولت إلى تنظيم مسلح شنّ هجمات على مؤسسات الدولة والمدارس والمساجد.
ومع انقسامها لاحقًا إلى فصائل، أبرزها تنظيم ولاية غرب إفريقيا الموالي لتنظيم داعش، أصبح الشمال النيجيري ساحة مفتوحة للصراع بين الجيش والجماعات المتطرفة.
طوال أكثر من عقد، حاولت الحكومات المتعاقبة احتواء الأزمة عبر العمليات العسكرية، لكنها فشلت في معالجة جذور المشكلة المرتبطة بالفقر والتهميش والبطالة. واليوم، بعد مرور أكثر من 15 عامًا، لا تزال نيجيريا تُعاني من نفس الداء، وإن تغيّرت ملامحه.
تصاعد جديد للعنف في 2025
شهد العام 2025 موجة جديدة من الهجمات، وصفها مراقبون بأنها “الأعنف منذ خمس سنوات”.
في يونيو وحده، قُتل أكثر من 300 شخص في سلسلة من الغارات التي استهدفت قرى في ولايتي بورنو وكاتسينا.
كما ارتفعت عمليات الخطف الجماعي لطلاب المدارس والمسافرين على الطرق السريعة، ما دفع الحكومة إلى إعلان حملة عسكرية واسعة تحت اسم “الدرع المتين”.
ورغم تأكيد الجيش أنه استعاد السيطرة على عدة مناطق، فإن التقارير الميدانية تُشير إلى استمرار الفوضى في مناطق ريفية واسعة.
يقول الصحفي النيجيري عليو ماينا من مايدوغوري: “الجيش يسيطر على المدن الكبرى، لكن الريف ما زال خارج السيطرة. هناك قرى لا تصلها الحكومة ولا المساعدات، فقط المسلحون هم من يفرضون النظام هناك.”
الأزمة الإنسانية: ملايين على حافة الجوع
تقدّر الأمم المتحدة عدد النازحين داخليًا في نيجيريا بأكثر من 3.2 ملايين شخص، يعيش أغلبهم في مخيمات مكتظة تفتقر للماء والغذاء والرعاية الصحية.
وفي ظل تدهور الزراعة بسبب انعدام الأمن، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة تجاوزت 45٪ خلال العام، ما جعل الحصول على وجبة يومية تحديًا حقيقيًا لملايين الأسر.
في مخيم “مونا” قرب مايدوغوري، تجلس فاطمة، وهي أمّ لخمسة أطفال، على الأرض الطينية أمام خيمتها البالية.
تقول بصوتٍ متهدج: “هربنا من القرية قبل عامين. كنا نزرع ونعيش بكرامة، أما الآن فننتظر الشاحنات التي تأتي بالمساعدات، ولا نعلم إن كانت ستعود غدًا.”
منظمات الإغاثة تؤكد أن الوضع الإنساني يقترب من حافة الانهيار. تقول مسؤولة برنامج الغذاء العالمي في نيجيريا، إليزابيث موانغا: “نحن نعمل في ظروف بالغة الصعوبة، مناطق كثيرة لا يمكن الوصول إليها بسبب القتال. إذا لم يتحسن الوضع الأمني، فسنشهد مجاعة حقيقية خلال الأشهر المقبلة.”
الحل ليس عسكريًا فقط
يرى محللون وخبراء أن الأزمة في شمال نيجيريا ليست مجرد صراع أمني، بل هي أزمة اجتماعية واقتصادية متجذرة.
يقول الخبير في شؤون الساحل الإفريقي الدكتور إبراهيم غاربا إن “التركيز على الحل العسكري دون تنمية حقيقية في الشمال جعل الأزمة تتجدد مع كل حكومة جديدة.”
ويضيف: “الشباب الذين ينضمون للجماعات المسلحة ليسوا بالضرورة متشددين دينيًا، بل ضحايا الفقر والبطالة والفساد. عندما تُغلق أمامهم أبواب الأمل، يجدون في السلاح طريقًا للنجاة أو الانتقام.”
وفي المقابل، يحذر الخبير الاقتصادي توني أوباسا من أن “الجنوب النيجيري الغني بالنفط يعيش في عالم آخر”، مشيرًا إلى أن “الفجوة التنموية بين الشمال والجنوب تولّد شعورًا متزايدًا بالتهميش والاستياء.”
المنظمات الحقوقية: المدنيون بين المطرقة والسندان
تقرير حديث لـ منظمة العفو الدولية اتهم كلًّا من الجماعات المتطرفة وبعض وحدات الجيش بارتكاب انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، بما في ذلك القتل خارج القانون والاحتجاز التعسفي.
وجاء في التقرير: “بينما يُقتل المدنيون على يد المتمردين، يُحتجز المئات في معسكرات الجيش دون محاكمات، ويُعاملون كإرهابيين لمجرد الاشتباه بانتمائهم.”
الناشطة الحقوقية هاليمة موسى ترى أن “غياب العدالة يزيد من دائرة العنف”، وتقول:“عندما تُهدم قرية بأكملها بحجة ملاحقة المسلحين، فإنك تخلق عشرة مسلحين جدد. الحل هو في العدالة، لا في الانتقام.”
الأمم المتحدة ومجلس الأمن: دعوات لتسوية شاملة
في أكتوبر 2025، ناقش مجلس الأمن الدولي الوضع في نيجيريا ضمن جلسة مخصصة لأمن الساحل الإفريقي. وأصدر بيانًا دعا فيه الحكومة النيجيرية إلى اعتماد “نهج شامل يجمع بين الأمن والتنمية والمصالحة الوطنية”.
كما دعا البيان دول الجوار تشاد والنيجر والكاميرون إلى تعزيز التنسيق الحدودي لمواجهة تمدد الجماعات المسلحة.
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أعرب عن “قلقه العميق من استمرار معاناة المدنيين”، مؤكدًا أن “الحلول العسكرية لا يمكن أن تنجح من دون إصلاحات اقتصادية وتعليمية تعيد الأمل إلى المجتمع.”
من جانبه، قال المبعوث الأممي الخاص لغرب إفريقيا ليونارد مبالي: “نيجيريا بحاجة إلى حوار وطني حقيقي يشمل الزعماء المحليين والدينيين والقبليين. لا يمكن فرض السلام من الخارج، يجب أن يُبنى من الداخل.”
رجال الدين: صوت الاعتدال في زمن التطرف
في ظل تزايد الخطابات المتطرفة، برز دور رجال الدين المعتدلين في توجيه المجتمع نحو المصالحة ونبذ العنف.
يقول الشيخ محمد ناصر، أحد كبار علماء شمال نيجيريا: “الإسلام بريء من القتل والتدمير. الجهل هو عدونا الحقيقي، والتعليم هو سلاحنا في مواجهته.”
وفي كنيسة صغيرة بمدينة جوس، يدعو القس جوزيف إيمانويل إلى الصلاة من أجل وحدة البلاد، مؤكدًا أن “المسيحيين والمسلمين شركاء في المعاناة، وعليهم أن يكونوا شركاء في الحل.”
رجال الدين هؤلاء يحاولون ترميم الثقة بين الطوائف، في وقت تسعى فيه الجماعات المسلحة لاستغلال الانقسامات الدينية لتحقيق أهدافها.
المجتمع الدولي: دعم خجول واستجابة محدودة
رغم الجهود الإنسانية، يشير مراقبون إلى أن الاهتمام الدولي بالأزمة النيجيرية لا يزال محدودًا مقارنةً بأزمات أخرى.
تقول الخبيرة في الشؤون الإفريقية ماريا كولنز من معهد لندن للدراسات الأمنية:“نيجيريا ليست على رأس أولويات المجتمع الدولي، رغم أنها أكبر اقتصاد في إفريقيا. لكن انهيارها الأمني سيشكل خطرًا على غرب القارة بأكمله.”
في المقابل، أعلنت الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عن زيادة الدعم الإنساني خلال العام الجاري، لكن المراقبين يشككون في قدرة هذه المساعدات على إحداث فارق ملموس دون وجود إرادة سياسية قوية داخل نيجيريا نفسها.
طريق طويل نحو السلام
بين أصوات الانفجارات وصرخات الأمهات في المخيمات، ما زال الأمل ضعيفًا لكنه موجود.
تقول اللاجئة فاطمة وهي تنظر إلى أطفالها: “كل ما نريده هو أن نعود إلى بيوتنا، أن نزرع ونعيش بسلام. تعبنا من الحرب.”
هذا الصوت البسيط يُلخص مأساة شمال نيجيريا، التي لم تعد مجرد أزمة أمنية، بل قضية إنسانية تمسّ كرامة الملايين.
السلام هناك لا يمكن أن يُولد من فوهة بندقية، بل من عدالة حقيقية وتنمية متوازنة ومصالحة صادقة تعيد الثقة بين الدولة وشعبها.
ورغم قتامة المشهد، يرى بعض الخبراء أن عام 2026 قد يكون عامًا مفصليًا، إذا ما استمرت الحكومة في خطط التنمية، واستجابت للمطالب الدولية، وفتحت الباب أمام الحوار الوطني.
لكن حتى ذلك الحين، سيظل الشمال النيجيري عالقًا بين نيران التطرف ونداءات السلام، ينتظر من يسمع صوته ويضع حدًا لمعاناته الطويلة.”.
الآراء المعارضة: بين قناعة بالإصلاح وواقعٍ من الدمار
رغم الإدانات الواسعة لأنشطة الجماعات المسلحة في شمال نيجيريا، فإن بعض الأصوات في الداخل ما تزال ترى فيها حركة إصلاح ديني واجتماعي، خرجت من رحم الظلم والفساد.
في الأسواق الشعبية بمدينة ميدوغوري، قد تسمع من يقول إن “بوكو حرام كانت في بدايتها صوت الفقراء الذين سئموا من ترف الساسة وفساد رجال الدولة”.
يقول الشاب عبدالله محمد، وهو من سكان بلدة كانو قبل أن تبدأ الجماعة بالقتال، كانت تدعو الناس إلى الصلاة، ورفض الظلم، ومقاطعة التعليم الفاسد الذي لا يربط الإنسان بدينه. لكن الدولة هي التي واجهتها بالقوة، فتحول الدعوة إلى حرب.”
ويرى آخرون أن “الفكر الذي حملته بوكو حرام لم يكن كله خطأ”، بل “حاول تصحيح مسار مجتمع ابتعد عن القيم الدينية، وأصبح غارقًا في المادية والفساد”.
إلا أن معظم هؤلاء يقرّون في الوقت نفسه بأن تحوّل الجماعة إلى العنف المسلح أفقدها مشروعها الديني والأخلاقي.
الجذور الاجتماعية والدينية للفكر المتشدد
يرى الباحث في شؤون الحركات الإسلامية الدكتور حمدان عبد القادر أن جماعة بوكو حرام “استغلت حالة الفساد الأخلاقي والإداري التي سادت البلاد، وقدّمت خطابًا دينيًا يجد صدى في قلوب الفقراء والمهمشين”.
ويقول في حديث لمجلة أفريكان ريفيو: “حين يرى الشاب أن الحكام ينهبون الثروات، وأن التعليم لا يوفر له عملًا ولا كرامة، وأن القضاء فاسد، يصبح خطاب التطهير الديني جذابًا للغاية.”
ويضيف: “لكن المشكلة أن هذا الخطاب لم يقدّم إصلاحًا حقيقيًا، بل تحول إلى أداة للعنف والانتقام، ما شوّه جوهر الفكرة الإصلاحية.”
من ناحية أخرى، يرى بعض رجال الدين المتشددين أن الجماعات “تسعى لتطبيق الشريعة الإسلامية التي أهملتها الدولة”، ويبررون بعض ممارساتها بأنها “رد على ظلم النظام العلماني”.
يقول أحدهم – رفض ذكر اسمه – في مقابلة إذاعية محلية: “نحن لا نؤيد قتل الأبرياء، لكن من حق الأمة أن تعود إلى شرع الله، ومن يقف ضد ذلك فهو من المعتدين.”
رد رجال الدين الوسطيين: الدين لا يُصلح بالدم
في المقابل، يرفض علماء الدين المعتدلون هذه المبررات رفضًا قاطعًا، معتبرينها تحريفًا لمبادئ الإسلام.
الشيخ محمد ناصر، أحد أبرز علماء شمال نيجيريا، يقول: “من يزعم أنه يُقيم الدين عبر قتل الناس فقد ضلّ الطريق. الإسلام جاء بالعدل والرحمة، لا بالذبح والترويع.”
ويضيف:“الدعوة إلى الإصلاح لا تكون بقطع الرؤوس أو تفجير المدارس. إنما تكون بالتعليم، وبالقدوة، وبمكافحة الفساد بالحكمة لا بالسلاح.”
كما أصدرت رابطة العلماء النيجيريين بيانًا دينيًا مطلع هذا العام، أكدت فيه أن “كل جماعة تتبنى العنف لفرض أفكارها إنما تخدم أعداء الدين، لا الدين نفسه”.
الأمم المتحدة والحقوقيون: الفقر والتهميش أرض خصبة للفكر المتطرف
يُشير خبراء الأمم المتحدة إلى أن هذه الأفكار لا يمكن فصلها عن الواقع الاجتماعي المأزوم.
ففي مناطق تفتقر إلى المدارس، والمياه، والكهرباء، يجد خطاب “العودة إلى الدين والعدل” أرضًا خصبة.
تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) عام 2025 يؤكد أن “60٪ من الشباب المنضمين للجماعات المسلحة يفعلون ذلك بدافع البحث عن العدالة والكرامة، وليس بالضرورة لأسباب دينية صِرفة”.
ويعلق الخبير الأممي باتريك لامار: “يجب أن نفهم أن التطرف ليس فقط نتاجًا للفكر الديني المتشدد، بل هو أيضًا نتيجة غياب الأمل. الجماعات تقدم لهؤلاء الشباب هوية وانتماءً وشعورًا بالقوة، في حين أن الدولة غائبة.”
المجتمع المنقسم: خوف وحنين إلى العدالة
في شوارع مايدوغوري وكاتسينا، يتحدث الناس بنبرة متناقضة: خوف من الجماعات، وحنين إلى زمن كانت فيه قيم الانضباط والصدق والدين أقوى.
يقول أحد التجار المسنين:“بوكو حرام خربت كل شيء، لكنها كشفت لنا أيضًا فساد الحكومة. كنا نحتاج صوتًا يقول الحقيقة، لكنهم حولوا هذا الصوت إلى سلاح ضدنا.”
هكذا تتقاطع المأساة بين فقدان الثقة في الدولة وتطرف الجماعات التي استغلت هذا الفراغ.
فالناس بين مطرقة الإرهاب وسندان الفساد، لا يجدون من يمثلهم ولا من ينصفهم.
بين الإصلاح المزعوم والانحراف الدموي
الحقيقة التي تتفق عليها معظم التحليلات أن جماعات مثل بوكو حرام بدأت من خطاب إصلاحي ديني يستند إلى رفض الفساد والظلم، لكنها سرعان ما انزلقت إلى العنف، ففقدت مشروعها الأخلاقي، وتحولت من “إصلاحية” إلى “تدميرية”.
يقول الخبير النيجيري إليشا جون: “بوكو حرام لم تعد تسعى لإصلاح المجتمع، بل لتدميره باسم الدين. الإصلاح الحقيقي يحتاج إلى علم وتعليم وعدالة، لا إلى سلاح وخطف وتفجير.”
ويبقى السؤال الأكبر:هل يمكن استعادة جوهر “الإصلاح” الذي حلم به الناس عدالة، نزاهة، وكرامة دون أن يُختطف الدين من جديد؟
الإجابة ربما تكمن في وعي الأجيال القادمة، وفي قدرة نيجيريا على أن تبني دولة تُشبع احتياجات مواطنيها بالعدل، لا أن تتركهم نهبًا للأوهام.