أمة بلا بوصلة: أزمة القرار في الوطن العربي
تحديات الوحدة وآفاق النهوض في عالم متغير
- محمود الشاذلي
- يونيو 24, 2025
- اخبار عربية, تقارير, رأي وتحليلات
- أمة بلا بوصلة, اتفاقية سايكس-بيكو, التكتل العربي, الدولة العثمانية, الصراع العربي الإسرائيلي, الوطن العربي, دول الخليج
منذ تفكك الدولة العثمانية وإعادة رسم خريطة العالم العربي في مطلع القرن العشرين، والمنطقة العربية تعيش في ظل تحديات متشابكة سياسياً واقتصادياً وهوياتياً. هذه التحديات لم تكن مجرد انعكاسات لواقع داخلي هش، بل أيضاً نتيجة مباشرة لتدخلات خارجية ممنهجة، بدأت باتفاقية سايكس-بيكو ووعد بلفور، واستمرت بأشكال متعددة حتى يومنا هذا. هذا التقرير يتناول جذور الأزمة، ويحلل ديناميكيات الفعل ورد الفعل التي حكمت التفاعلات العربية، كما يرصد آفاق التوحد في ظل الانقسام، ويقيّم فرص التعاون مع القوى الدولية الصاعدة.
جذور الأزمة
جاءت اتفاقية سايكس-بيكو عام 1916 لتعيد رسم حدود المنطقة العربية على أسس استعمارية، أسفرت عن دول صغيرة ضعيفة بلا عمق إستراتيجي أو وحدة اقتصادية. تبع ذلك وعد بلفور عام 1917، الذي زرع نواة الصراع العربي الإسرائيلي، وأسّس لحضور دائم لقوة أجنبية في قلب العالم العربي.
مع نهاية الاستعمار التقليدي، ورثت الدول العربية أنظمة هشة، اعتمدت على دعم خارجي، وغلبت مصالح البقاء السياسي على أولويات التنمية أو بناء مؤسسات قادرة على توجيه السياسات الوطنية.
دروس من محاولات الوحدة السابقة
في منتصف القرن العشرين، برزت محاولات وحدوية أبرزها تجربة “الجمهورية العربية المتحدة” بين مصر وسوريا (1958-1961). التجربة انتهت سريعًا لأسباب تتعلق بفرض الوحدة من الأعلى دون مشاركة شعبية، وتباين الأنظمة الاقتصادية، بالإضافة إلى تدخلات خارجية عرقلت المشروع.
ما تكشفه هذه التجربة هو أن أي وحدة مستقبلية تحتاج إلى تدرج يبدأ بالتكامل الاقتصادي، وبنية سياسية مرنة، مع إشراك حقيقي للمجتمع المدني، واستقلال عن التوجيهات الدولية.
الوضع السياسي الراهن
المنطقة العربية تشهد انقسامًا سياسيًا حادًا، بين دول موالية للغرب مثل الخليج ومصر والأردن، وأخرى تنضوي ضمن ما يُعرف بمحور المقاومة (إيران، سوريا، حزب الله). الجامعة العربية، رغم كونها مظلة جامعة، إلا أنها تفتقر إلى أدوات التأثير الفعلي، في ظل تباين المصالح والاصطفافات.
القوى الغربية لا تزال تمارس تأثيرًا واسعًا، سواء من خلال دعم أنظمة بعينها مقابل مصالح اقتصادية، أو عبر قواعد عسكرية في الخليج، ومواقف سياسية تستهدف احتواء إيران، ومؤخرًا، مواجهة الصين وروسيا.
البعد الاقتصادي والاجتماعي
تعاني الدول العربية من تفاوت اقتصادي واسع. في حين تمتلك دول الخليج فوائض مالية كبيرة، تعاني دول كاليمن وسوريا ولبنان من أزمات اقتصادية حادة.
تُقدّر نسبة البطالة بين الشباب بنحو 30% في دول مثل مصر والعراق، فيما يصيب الفقر قرابة 29% من سكان العالم العربي. بعض الدول، كلبنان ومصر، تتحمل ديونًا خارجية ضخمة، تتجاوز 80% من ناتجها المحلي.
هذا التفاوت يعمق الانقسام ويجعل فكرة السوق العربية المشتركة أكثر تعقيدًا، في ظل غياب آليات توزيع منافع عادلة.
الهويات والثقافة والتعليم
شهدت الهوية العربية الإسلامية حالة تفكك تدريجي بفعل السياسات التعليمية والإعلامية. فالمناهج الدراسية في دول عربية عدة نشأت على قواعد استعمارية، عززت الهويات القُطرية على حساب الهوية الجامعة.
الإعلام العربي، الذي يتجاوز عدد قنواته الفضائية 700 قناة، غالبًا ما يُدار بأجندات إقليمية متضاربة، ما يعزز الانقسام المذهبي والمناطقي.
اللغة العربية، رغم كونها عاملًا موحدًا، تتعرض لتراجع في إتقانها، نتيجة ضعف نظم التعليم، وغياب الاهتمام بالفصحى في الإعلام والمحتوى الرقمي.
الدين والتطرف
الانقسام السني-الشيعي، المغذّى بصراع إقليمي بين السعودية وإيران، يمثل إحدى العقبات الكبرى أمام الوحدة. كما أدى الفراغ السياسي في بعض الدول إلى صعود جماعات متطرفة كداعش والقاعدة، ما أتاح للغرب ذرائع للتدخل العسكري والسياسي.
التحول الرقمي والتكنولوجيا
تعاني المنطقة من غياب بنية تحتية رقمية موحدة. في حين تتقدم دول كالإمارات والسعودية في التحول الرقمي، تتراجع دول مثل اليمن وسوريا.
تعتمد الدول العربية بشكل شبه كامل على شركات أجنبية (غوغل، ميتا، هواوي)، دون وجود بدائل محلية أو تعاون تقني عربي مشترك.
الهجمات السيبرانية، مثل استهداف منشآت أرامكو، كشفت عن هشاشة الأمن الرقمي. مع ذلك، يمكن أن يمثل التحول الرقمي أحد جسور التكامل العربي، في حال إنشاء سوق إلكترونية موحدة أو تحالف سيبراني لحماية البنية التحتية.
أدوار القوى الإقليمية والدولية
إسرائيل، بعد اتفاقيات التطبيع، باتت لاعبًا محوريًا يسعى لإعادة ترتيب التحالفات الإقليمية لصالحه، مع تغييب تدريجي للقضية الفلسطينية.
إيران تمارس نفوذًا متزايدًا في العراق وسوريا ولبنان عبر دعم جماعات مسلحة، وهو ما يعمق الاستقطاب المذهبي.
تركيا تروّج لنموذج سياسي واقتصادي خاص بها، مستفيدة من وجودها العسكري في ليبيا وسوريا، ومن علاقاتها بجماعات الإسلام السياسي.
في المقابل، توفر الصين وروسيا فرصًا لتحالفات تكتيكية يمكن أن تقلل من الاعتماد على الغرب، شريطة أن تحافظ الدول العربية على استقلالية قرارها السياسي.
الإعلام والمنصات الرقمية
الإعلام العربي يعكس انقسامات الدولة الراعية. قناة كالجزيرة تُتهم بتعزيز خطاب الإسلام السياسي، بينما العربية تتبنى خطابًا أقرب إلى أنظمة الخليج.
أما الإعلام الغربي، فيغلب عليه تصوير العالم العربي كمنطقة نزاع دائم، ما يضعف فرص التفاعل الإيجابي معه.
وسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك، لعبت دورًا مهمًا في الربيع العربي، لكنها أصبحت أيضًا أدوات للتضليل أو الرقابة، خاصة مع التحكم الغربي في المحتوى العربي.
الشتات العربي
يعيش نحو 20 مليون عربي في أوروبا وأمريكا، بينهم أكثر من 1.5 مليون طالب جامعي. يمتلك الشتات إمكانيات كبيرة، سواء من حيث الضغط السياسي أو تمويل المشاريع التنموية أو تحسين الصورة الثقافية.
لكن غياب تنظيم موحد، والانقسامات السياسية والدينية، تعيق فعالية هذا الشتات مقارنة بجاليات أخرى مثل اليهود أو الأرمن.
التعليم والمعرفة
الإنفاق على البحث العلمي في العالم العربي لا يتجاوز 0.8% من الناتج المحلي، وهو من أدنى المعدلات عالميًا. هجرة العقول مستمرة، إذ يُقدّر أن 50% من العلماء العرب يعملون في الخارج.
المناهج تعتمد على الحفظ أكثر من التحليل، وتفتقر إلى تعزيز التفكير النقدي أو الهوية الجامعة. معدلات القراءة لا تزال منخفضة، ويُقدّر أن متوسط ما يقرأه الفرد العربي لا يتجاوز كتابًا واحدًا سنويًا.
الفعل ورد الفعل: تحليل ديناميكي
المنطقة العربية عالقة في نمط من الفعل الخارجي (تدخلات، تطبيع، تحالفات دولية) ورد الفعل الداخلي (احتجاجات، بيانات، تحالفات ظرفية).
غياب القيادة الموحدة، وضعف المؤسسات، واعتماد الإعلام على الإثارة لا التحليل، جعل الردود العربية تتسم بالانفعال بدلًا من الاستراتيجية.
السيناريوهات المستقبلية
في ظل هذا المشهد، هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة:
- التوحد: يبدأ بتحالف اقتصادي وسياسي تدريجي، ويتطلب إرادة إصلاحية وقيادة كاريزمية.
- الفوضى: تتصاعد فيها النزاعات، مع انهيار اقتصادي وهجرة جماعية.
- الجمود: تستمر فيه الهيمنة الخارجية والشلل الداخلي دون تغيير جذري.
فرص وتحديات الوحدة
تشكل الموارد الطبيعية الهائلة (العرب يمتلكون نحو 30% من احتياطي النفط العالمي)، ووجود شريحة شبابية ضخمة (60% من السكان)، وعامل الشتات، فرصًا حقيقية لأي مشروع نهضوي.
لكن الانقسامات المذهبية، ضعف التعليم والإعلام، والتدخلات الخارجية، تمثل أبرز التحديات.
خاتمة وتوصيات
- إنشاء سوق عربية مشتركة رقمية واقتصادية.
- إصلاح التعليم لإعادة بناء الهوية وتعزيز التفكير النقدي.
- تنظيم الجاليات العربية في الخارج لتشكيل لوبي سياسي واقتصادي.
- تطوير إعلام مستقل قادر على مخاطبة الداخل والخارج بلغة مهنية.
- بناء تحالفات مرنة مع القوى الصاعدة، دون ارتهان.
الوحدة ليست خيارًا سهلًا، لكنها لم تعد ترفًا. في ظل أزمات متزايدة، قد يكون التكتل العربي هو السبيل الوحيد لمستقبل مستقر وقابل للحياة.